فصل: بقية الخبر عن وزراء المقتدر.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.بقية الخبر عن وزراء المقتدر.

قد تقدم الكلام في وزارة حامد بن العباس وأن علي بن عيسى كان مستبدا عليه في وزارته وكان كثيرا ما يطرح جانبه ويسيء في توقعاته على عماله وإذا اشتكى إليه أحد من نوابه يوقع على القصة: إنما عقد الضمان على الحقوق الواجبة فليكف الظلم عن الرعية فأنف حامد من ذلك واستأذن في المسير إلى واسط للنظر في ضمانه فأذن له ثم كثرت إستغاثة الخدم والحاشية من تأخر أرزاقهم وفسادها فإن علي بن عيسى كان يؤخرها وإذا اجتمعت عدة شهور أسقطوا بعضها وكثرت السعاية واستغاث العمال وجميع أصحاب الأرزاق بأنه حط من أرزاقهم شهرين من كل سنة فكثرت الفتنة على حامد وكان الحسن ابن الوزير ابن الفرات متعلقا بمفلح الأسود خالصة الخليفة المقتدر وكان شقيقه لأبيه وجرى بينه وبين حامد يوما كلام فأساء عليه حامد وحقد له وكتب ابن الفرات إلى المقتدر وضمن له أموالا فأطلقه واستوزره وقبض على علي بن عيسى وحبسه في مكانه وذلك سنة إحدى عشرة وجاء حامد من واسط فبعث ابن الفرات من يقبض عليه فهرب من طريقه واختفى ببغداد ثم مضى إلى نصر بن الحاجب سرا وسأل إيصاله إلى المقتدر وأن يحبسه بدار الخلافة ولا يمكن ابن الفرات منه فاستدعى نصر الحاجب مفلحا الخادم حتى وقفه على أمره وشفع له في رفع المؤاخذة بما كان منه فمضى إلى المقتدر وفاوضه بما أحب وأمر المقتدر بإسلامه لابن الفرات فحبسه مدة ثم أحضره وأحضر له القضاة والعمال وناظره فيما وصل إليه من الجهات فأقر بنحو ألف ألف دينار وضمنه المحسن بن الفرات بخمسمائة ألف دينار فسلم إليه وعذبه أنواعا من العذاب وبعثه إلى واسط ليبيع أمواله هناك فهلك في طريقه بإسهال أصابه ثم صودر علي بن عيسى على ثلثمائة ألف دينار وعذبه المحسن بعد ذلك عليها فلم يستخرج منه شيئا وسيره ابن الفرات أيام عطلته وحبسه بعد أن كان رباه وأحسن إليه فقبض عليه مدة ثم أطلقه وقبض على ابن الجوزي وسلمه إلى ابنه المحسن فعذبه ثم بعثه إلى الأهواز لاستخراج الأموال فضربه الموكل به حتى مات وقبض أيضا على الحسين بن أحمد وكان تولى مصر والشام وعلى محمد بن علي المارداني وصادرهما على ألف ألف وسبعمائة ألف دينار وصادر جماعة من الكتاب سواهم ونكبهم وجاء مؤنس من غزاته فأنهى إليه أفعال ابن الفرات وما هو يعتمد من المصادرات والنكايات وتعذيب ابنه للناس فخافه ابن الفرات وخوف المقتدر منه وأشار بسيره إلى الشام ليقيم هنالك بالثغر فبعثه المقتدر وأبعده ثم سعى ابن الفرات بنصر الحاجب وأغراه به وأطمعه في ماله وكان مكثرا واستجار نصر بأم المقتدر ثم كثر الارجاف بابن الفرات فخاف وانهى إلى المقتدر بأن الناس عادوه لنصحه للسلطان واستيفاء حقوقه وركب هو وابنه المحسن إلى المقتدر فأوصلهما إليه وأسهمهما وخرجا من عنده فمنعهما نصر الحاجب ودخل مفلح على المقتدر وأشار إليه بعزله فأسر إليه وفاقه على ذلك وأمر بتخلية سبيلهما واختفى المحسن من يومه وجاء نازوك وبليق من الغد في جماعة من الجند إلى دار ابن الفرات فأخرجوه حافيا حاسرا وحمل إلى مؤنس المظفر ومعه هلال بن بدر ثم سلم إلى شفيع اللؤلؤي فحبس عنده وصودر على ألف ألف دينار وذلك سنة اثنتي عشرة وكان عبد الله أبو القاسم بن علي بن محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان لما تغير حال ابن الفرات سعى في الوزارة وضمن في ابن الفرات وأصحابه ألفي ألف دينار على يد مؤنس الخادم وهرون بن غريب الحال ونصر الحاجب فاستوزره المقتدر على كراهية فيه ومات أبوه علي على وزارته وشفع إليه مؤنس الخادم في إعادة علي بن عيسى من صنعاء فكتب له في العود وبمشارفة أعمال مصر الشام وأقام المحسن بن الفرات مختفيا مدة ثم جاءت إمرأة إلى دار المقتدر تنادي بالنصيحة فأحضرها نصر الحاجب فدلت على المحسن فأحضر نازوك صاحب الشرطة فسلم للوزير وعذب بأنواع العذاب فلم يستخرج منه شيء فأمر المقتدر بحمله إلى أبيه بدار الخلافة وجاء الوزير أبو القاسم الخاقاني إلى مؤنس وهرون ونصر فحذرهم شأن ابن الفرات وغائلته بدار الخلافة وأغراهم به فوضعوا القواد والجند وقالوا: لابد من قتل ابن الفرات وولده ووافق هؤلاء على ذلك فأمر نازوك بقتلهما فذبحهما وجاء هرون إلى الوزير الخاقاني يهنئه بذلك فأغمي عليه ثم أفاق وأخذ منه ألفي دينار وشفع مؤنس المظفر في ابنيه عبد الله وأبي نصر فأطلقهما ووصلهما بعشرين ألف دينار ثم عزل الخاقاني سنة ثلاث عشرة لأنه أصابه المرض وطال به وشغب الجند في طلب أرزاقهم فوقفت به الأحوال وعزله المقتدر وولى مكانه أبا العباس الخصي وكان كاتبا لأمه فقام بالأمر وأقر علي عيسى على أعمال مصر والشام فكان يتردد إليهما من مكة ثم إن الخصي اضطربت أموره وضاقت الجباية وكان مدمنا للسكر مهملا للأمور ووكل من يقوم عنه فآثروا مصالحم وأضاعوا مصلحته وأشار مؤنس المظفر بعزله وولاية ابن عيسى فعزل لسنة وشهرين واستقدم علي بن عيسى من دمشق وأبو القاسم عبد الله بن محمد الكواذي بالنيابة عنه إلى أن يحضر فحضر أول سنة خمس عشرة واستقل بأمر الوزارة وطلب كفالات المصادرين والعمال وما ضمن من الأموال بالسواد والأهواز وفارس والمغرب فاستحضرها شيئا بعد شيء وأدر الأرزاق وبسط العطاء وأسقط أرزاق المغنين والمسامرة والندمان والصفاعنة وأسقط من الجند أصاغر الأولاد ومن ليس له سلاح والهرمي والزمنى وباشر الأمور بنفسه واستعمل الكفاة وطلب أبا العباس الخصي في المناظرة وأحضر له الفقهاء والقضاة والكتاب وسأله عن أمواله الخوارج والنواحي والمصادرات وكفالاتها وما حصل من ذلك وما الواصل والبواقي فقال لا أعلم فسأله عن المال الذي سلمه لابن أبي الساج كيف سلمه بلا مصرف ولا منفق وكيف سلم إليه أعمال المشرق وكيف بعثه لبلاد الصحراء بهجرهو وأصحابه من أهل الغلول والخصب فقال: ظننت منهم القدرة على ذلك وامتنع ابن أبي الساج من المنفق فقال: وكيف استجزت ضرب حرم المصادرين؟ فسكت ثم سئل عن الخراج فخلط فقال: أنت غررت أمير المؤمنين من نفسك فهلا استعذرت بعدم المعرفة ثم أعيد إلى محبسه واستمر علي بن عيسى في ولايته ثم اضطربت عليه الأحوال واختلفت الأعمال ونقص الإرتياع نقصا فاحشا وزادت النفقات وزاد المقتدر تلك الأيام في نفقات الخدم والحرم ما لا يحصى وعاد الجند من الأنبار فزادهم في أرزاقهم مائتين وأربعين ألف دينار فلما رأى ذلك علي بن عيسى ويئس من إنقطاعه أو توقفه وخشى من نصر الحاجب فقد كان انحرف عنه لميل مؤنس إليه وما بينهما من المنافرة في الدولة فاستعفى من الوزارة وألح في ذلك وسكنه مؤنس فقال له: أنت سائر إلى الرقة وأخشى على نفسي بعدك ثم فاوض المقتدر نصر الحاجب بعد مسير مؤنس فأشار بوزارة أبي علي ابن مقلة فاستوزره المقتدر سنة ست عشرة وقبض على علي بن عيسى وأخيه عبد الرحمن وأقام ابن مقلة بالوزارة وأعانه فيها أبو عبد الله البريدي لمودة كانت بينهما واستمرت حاله على ذلك ثم عزله المقتدر ونكبه بعد سنتين وأربعة أشهر حين استوحش من مؤنس كما نذكره وكان ابن مقلة متهما بالميل إليه فأتفق مغيبه في بعض الوجوه فيقبض عليه المقتدر فلما جاء مؤنس سأل في إعادته فلم يجبه المقتدر وأراد قتله فمنعه واستوزر المقتدر سليمان بن الحسن وأمر علي بن عيسى بمشاركته في الإطلاع على الدواوين وصودر ابن مقلة على مائتي ألف دينار وأقام سليمان في وزارته سنة وشهرين وعلي بن عيسى يشاركه في الدواوين وضاقت عليه الأحوال إضاقة شديدة وكثرت المطالبات ووقفت وظائف السلطان ثم أفرد السواد بالولاية فانقطعت مواد الوزير لأنه كان يقيم من قبله من يشتري توقعات الأرزاق ممن لا يقدر على السعي في تحصيلها من العمال والفقهاء وأرباب البيوت فيشتريها بنصف المبلغ فتعرض بعض من كان ينتمى لمفلح الخادم لتحصيل ذلك للخليفة وتوسط له مفلح فدافع لذلك وجاهر في تحصله من العمال فاختلت الأحوال بذلك وفضح الديوان ودفعت الأحوال لقطع منافع الوزراء والعمال التي كانوا يرتفقون بها وإهمالهم أمور الناس بسبب ذلك وعاد الخلل على الدولة وتحرك المرشحون للوزارة في السعاية وضمان القيام بالوظائف وأرزاق الجند وأشار مؤنس بوزارة أبي القاسم الكلواذي فاستوزره المقتدر في رجب من سنة تسع عشرة وأقام في وزارته شهرين وكان ببغداد رجل من المخرفين يسمى الدانيالي وكان وراقا ذكيا محتالا يكتب الخطوط في الورق ويداويها حتى تتم بالبلى وقد أودعها ذكر من يراه من أهل الدوله برموز وإشارات ويقسم له فيها من حظوظ الملك والجاه والتمكين قسمة من عالم الغيب يوهم أنها من الحدثان القديم المأثور عن دانيال وغيره وأنها من الملاحم المتوارثة عن آبائه ففعل مثل ذلك بمفلح وكتب له في الأوراق م م م بأن يكون له كذا وكذا وسأله مفلح عن الميم فقال: هو كناية عنك لأنك مفلح مولى المقتدر وناسب بينه وبين علامات مذكورة في تلك الأوراق حتى طبقها عليه فشغف به مؤنس وأغناه وكان يداخل الحسين بن القاسم بن عبد الله بن وهب فرمز اسمه في كتاب وذكر بعض علاماته المنطبقة عليه وذكر أنه يستوزره الخليفة الثامن عشر من بني العباس وتستقيم الأمور على يديه ويقهر الأعادي وتعمر الدنيا في أيامه وخلط ذلك في الكتاب بحدثان كثير وقع بعضه ولم يقع الآخر وقرأ الكتاب على مفلح فأعجبه وجاء بالكتاب إلى المقتدر فأعجب به الآخر وقال لمفلح: من تعلم بهذه القصة؟ فقال لا أراه إلا الحسين بن القاسم قال: صدقت وإني لأميل إليه وقد كان المقتدر أراد ولايته قبل ابن مقلة وقبل الكلواذي فامتنع مؤنس ثم قال المقتدر لمفلح: إن جاءتك رقعة منه بالسعي في الوزارة فأعرضها علي ثم سأل مفلح الدانيالي من أين لك الكتاب؟ قال: وراثة من آبائي وهو من ملاحم دانيال فأنهى ذلك إلى المقتدر واغتبطوا بالحسين وبلغ الخبر إليه فكتب إلى مفلح بالسعي في الوزارة فعرض كتابه على المقتدر فأمره بإصلاح مؤنس واتفق أن الكلواذي عمل حسابا بما يحتاج إليه من النفقات الزائدة على الحاصل فكاتب سبعمائة ألف دينار وكتب عليه أهل الديوان خطوطهم وقال ليس لهذه جهة إلا ما يطلقه أمير المؤمنين فعظم ذلك على المقتدر وأمر الحسين بن القاسم أن يضمن جميع النفقات وزيادة ألف ألف دينار لبيت المال وعرض كتابه على الكلواذي فاستقال وأذن للكلواذي لشهرين من وزارته وولى الحسين بن القاسم واشترط أن لا يشاركه علي بن عيسى في شيء من أموره وإخراجه الصافية واختص به الحسين بن اليزيدي وابن الفرات ولما ولي واطلع على نقصان الارتياع وكثرة الإنفاق وضاق عليه الأمر فتعجل الجباية المستقبلة وصرفها في الماضية وبلغ ذلك هرون بن غريب الحال فأنهاه إلى المقتدر فرتب معه الخصي واطلع على حسابه فألقى له حسبه ليس فيها رمزه فأظهر ذلك للمقتدر وجميع الكتاب واطلعوا عليها قابلوا الوزير بتصديق الخصي فيما قاله وقبض على الحسين ابن القاسم في شهر ربيع من سنة عشرين لسبعة أشهر من ولايته واستوزر أبا الفتح الفضل بن جعفر وسلم إليه الحسين فلم يؤاخذه بإساءته ولم يزل على وزارته.